
كاتب هذا المقال ممن يعتقدون بأن اللغة العربية أعظم من أن يُحتفى بها في يوم واحد من أيام العام، وهو الأمر الذي صار متبعا في يوم 18 من ديسمبر من كل عام، احتفاء بالتاريخ الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في 18 من ديسمبر عام 1973م، وهو القرار الذي أقرّ إدخالَ اللغة العربية ضمن لغات العمل الرسمية داخل أروقة المنظمة الأممية الدولية.
ولعلي أيضا بحكم عملي باحثا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة أدرك المعنى العملي للاحتفاء بتلك اللغة العريقة التي لا يضاهيها في عراقتها وأصالتها وطول بقائها أية لغة حية في عالمنا المعاصر، وأرى كذلك أن المعنى العملي للاحتفاء باللغة العربية يجسده العمل المجمعي منذ صدور المرسوم الملكي عام ١٩٣٢م بإنشاء مجمع الملك فؤاد الأول، الذي صار بعد قيام الجمهورية مجمع اللغة العربية بالقاهرة. يتمثل ذلك الاحتفاء اليومي بلغتنا العريقة في نشاطات المجمع اليومية، والشهرية والسنوية.
أما النشاط اليومي؛ فيتمثل فيما تنجزه لجانه العلمية التي تنعقد يوميا من الصباح إلى المساء، سواء داخل أروقته بمقره الحالي بالزمالك، وهو شأن معظم اللجان العلمية، أو إذا اقتضت الحاجة أو الضرورة تنعقد اجتماعات اللجان أحيانا عبر تطبيقات التواصل عن بعد، وهي التقنيات التي تتيح للعلماء والباحثين إنجاز الأعمال المستهدفة مستفيدين من أحدث تكنولوجيا العصر، وهو الأمر الذي يعظم الاستفادة من الوقت، لإنجاز أكبر قدر من الأعمال، دون ارتباط بالمكان أو الزمان، وهي كلها وسائل تتماشى مع أغراض المجمع وأهدافه التي أنشئ من أجلها.
ولعل لجان المعجم الكبير هي أعرق تلك اللجان العلمية، وتجتمع عادة يوم الأحد من كل أسبوع، ويبلغ عددها خمس لجان، وتعمل على إنجاز واحد من أعرق المشروعات العلمية التي ينهض بها المجمع، وقد صدر من المعجم الكبير حتى عامنا هذا الجزء التاسع عشر، وهو الجزء الذي يحتوي على القسم الأول من جذور حرف العين، وهو واحد من أكبر الأبواب المعجمية في اللغة العربية، وتتشكل لجان المعجم الكبير من مجموعة من الأعضاء والباحثين والخبراء، تتنوع اختصاصاتهم العلمية ما بين اللغة والأدب والعلوم الإنسانية والعلوم البحتة.
ومن بين هذه اللجان أيضا لجنة معجم لغة الشعر العربي، وهي تنهض بواحد من أهم المشروعات العلمية لخدمة اللغة العربية، وثقافتها وآدابها، وتهدف إلى إنجاز معجم دلالي تاريخي لألفاظ الشعر العربي وتعابيره ومسكوكاته، تتبع ألفاظه وعباراته، وترصد دلالاتها المختلفة عبر عصور الشعر العربي ابتداء من أقدم استعمال للفظ عند أقدم الشعراء في عصر ما قبل الإسلام؛ مرورا بالمخضرمين والإسلاميين والأمويين والعباسيين والأندلسيين والمغاربة والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين وانتهاء بأحدث الاستعمالات لدى شعراء العصر الحديث، وهو ما يتيح للقارئ تتبع التطورات الدلالية التي طرأت على استعمال الكلمات، ويتيح له كذلك أن يتابع الدلالات المتصلة الاستعمال عبر العصور المختلفة، ويتيح له أيضا أن يتتبع الانقطاعات الدلالية لبعض المفردات التي كانت تستخدم إلى زمن معين بمعنى من المعاني، ثم توقف استعمالها بهذا المعنى، ليبدأ استعمالها بمعنى جديد في عصر آخر.
وقد صدر من معجم لغة الشعر الجزء الأول، الذي يحوي جذور حرف الهمزة، وقد انتهت لجنة معجم لغة الشعر برئاسة الأستاذ الدكتور محمود الربيعي – وهو صاحب فكرة المشروع - من الجزء الثاني الذي يضم بين دفتيه جذور حرف الباء، وهو الآن في طريقه إلى المطبعة؛ ليكون بين يدي القراء في أقرب الآجال، وتعمل اللجنة الآن على إنجاز مواد معجمية من جذور حرف التاء.
ومن لجان المجمع العلمية التي تحتفي باللغة العربية في استعمالها اليومي والمعيش والمعاصر لجنة الألفاظ والأساليب، وتعنى برصد الألفاظ والأساليب اللغوية المستخدمة في لغة المثقفين والفنانين والإعلاميين والأدباء، والتي تجري أحيانا على ألسنة العوام؛ فتبحث أصولها الفصيحة، وتُقِرُّ منها ما يوافق القياس العربي الفصيح، وإن لم ترصده المعاجم القديمة، إيمانا بأن اللغة العربية بأقيستها الفصيحة أوسع مما وصل إلينا في المدونات العربية القديمة سواء كانت مدونات أدبية، أم مدونات لغوية أو معجمية.
ومن أهم لجان المجمع العلمية واللغوية لجنة اللهجات والبحوث اللغوية، وتأتي جهودها تجسيدا لمفهوم الاحتفاء باللغة العربية والعناية بها في كل يوم من أيام العمل المجمعي، وتنهض ببحث اللغة العربية واستعمالاتها اليومية، ومقارنتها باستعمالاتها الأصيلة؛ فهي تبحث في أصول اللهجات العربية المعاصرة، صوتا، وصرفا، وتركيبا، ودلالة، وتكشف ما طرأ على اللهجات العربية من تغيير، محاولة الوقوف على أسباب التغيرات الصوتية أو الصرفية أو التركيبية، وتقوم كذلك بالكشف عن أوجه التلاقي أو التمايز بين الاستعمال العامي والاستعمال الفصيح، سواء كان هذا الاستعمال في لغة الحياة اليومية، أو في المأثورات الشفوية، أو في الإبداع الأدبي بكل أنواعه، قديما وحديثا.
ويقوم أعضاء اللجنة وباحثوها وخبراؤها أيضا بإعداد أبحاث لغوية وأدبية تستهدف الكشف عن بعض الظواهر اللغوية والقضايا العلمية في اللغة والأدب العربي قديمه وحديثه، وهو ما يعد نهجا عمليا في تجسيد الاحتفاء باللغة العربية في كل يوم من أيام مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
ومن لجان المجمع المتخصصة: لجان الأدب، والقانون والفلسفة والجغرافيا والتاريخ والآثار والتربية وعلم النفس ولجنة اللغة العربية في التعليم، ولجان العلوم البحتة ومنها: لجنة الرياضيات والحاسبات، والفيزياء والهيدرولوجيا والجيولوجيا والزراعة وعلم الأحياء والطب، والهندسة، والكيمياء والصيدلة، وغيرها.
وتعد لجنة اللغة العربية والذكاء الاصطناعي واحدة من أحدث اللجان العلمية التي جاء إنشاؤها في إطار سعي المجمع الدائب لمواكبة أحدث مستجدات العصر، ومسايرا لرؤية الدولة المصرية، ومحاولة لسد الفجوة المعرفية التي يعاني منها المحتوى العربي على شبكة الإنترنت، وتهدف هذه اللجنة إلى تعظيم الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في تعزيز خدمة اللغة العربية، وتيسير تعلمها، وتعظيم محتواها الرقمي علميا وأدبيا، وهو المحتوى الممتد تاريخيا عبر ما يزيد على ستة عشر قرنا من الزمان.
ومن جهة أخرى تتضافر جهود لجنة الذكاء الاصطناعي مع جهود لجنة الموقع الإلكتروني ورقمنة محتواه، وتعمل اللجنتان معا تحت إشراف عالم جليل هو الأستاذ الدكتور محمد فهمي طلبة أستاذ الحاسبات والمعلومات بجامعة عين شمس، وعضو مجلس المجمع، ومؤسس هذه اللجان، والمشرف العام على المشروعات التي تنفذها، وكان من أهم ما أنجزته لجنة الموقع الإلكتروني ورقمنة محتواه إنشاء موقع إلكتروني يليق بمكانة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وهي المكانة التاريخية والوطنية التي يسعى المجمع برؤيته وجهود أعضائه وباحثيه، إلى تأكيدها، من خلال نهوضه بدوره العلمي والقومي الرائد الذي يمتد عبر ما يزيد على تسعة عقود، وكان الهدف من إنشاء هذا الموقع هو إتاحة المحتوى العلمي للمجمع لمحبي اللغة العربية والمهتمين بها، من أهلها، وعلمائها، وباحثيها، ومتعلميها، في كل مكان، وفي أي وقت، وهو الأمر الذي يفيد في نشر المحتوى العلمي، بقدر ما يسهم في حمايته من الإهمال أو السرقة العلمية، كما يساعد في تعظيم المحتوى العلمي على شبكة الإنترنت، ومن جهة أخرى عملت اللجنة على حوسبة المعاجم العلمية واللغوية، وتحويلها إلى قواعد بيانات، تعد ركيزة أساسية من ركائز محرك البحث المجمعي، الذي صار قادرا على خدمة جمهور المجمع؛ فيَسَّر لهم طرائق البحث عن الكلمات والتراكيب، سواء في معاجم المجمع اللغوية، أو معاجمه المتخصصة، وكان من ثمار هذه الجهود الحثيثة أن أصبحت نتائج البحث الخاصة بمحرك البحث على موقع مجمع اللغة العربية بالقاهرة تأتي في الترتيب من الثاني إلى الخامس على محرك البحث جوجل، هذا مع العلم بأن ما أتيح على محرك البحث من المعاجم التي خضعت للتجارب، والمراجعة اللغوية والفحص الدقيق هو العدد الأقل، مما يجهزه فريق العمل على مدار الأيام، من معاجم المجمع وتراثه العلمي والأدبي الغزير.
وعلى مستوى الاحتفاء الشهري باللغة العربية، يأتي البرنامج الثقافي للمجمع نافذة ثقافية، يطل بها المجمع على المشهد الثقافي، ويطل من خلاله جمهور المجمع العام والنوعي على عدد من القضايا والموضوعات الثقافية المتنوعة التي تتنوع ما بين تقديم شخصية ثقافية مجمعية كان لها دور فاعل ومؤثر في الحياة الثقافية، مثل طه حسين، ومحمود محمد شاكر، أو تقديم قضية اجتماعية تشغل الجمهور العام مثل قضايا الامتحانات والتقييم للغة العربية، وواقع اللغة العربية في الصحافة المصرية، وواقع اللغة العربية في مواقع التواصل الاجتماعي، ودور الجمعيات اللغوية الأهلية في حماية اللغة العربية، أو قضايا أدبية وفنية مثل: أدب الخيال العلمي، وروايات نجيب محفوظ بين النص الأدبي والمعالجة السينمائية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في تعليم اللغة العربية.
كل هذه الموضوعات وغيرها قدمها البرنامج الثقافي للمجمع في ندواته الشهرية، على نحو يؤكد أن احتفاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة باللغة العربية لا يمكن أن يكون في يوم واحد من أيام العام، ولكنه احتفاء دائم ومستمر منذ إنشائه عام ١٩٣٢م.
يعد المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة هو تتويج لأعمال لجانه على مدار العام، وهو المؤتمر الذي يُدعى إليه رؤساء المجامع اللغوية، وأعضاء المجمع المراسلون من كل أنحاء العالم لاعتماد ما أنجزته لجان المجمع، وما أقره مجلسه، وهنا يتجلى المؤتمر احتفاء سنويا مُتَمِّمًا لجهود الأعضاء والباحثين والخبراء وجهوده اليومية على مدار العام.
ومن جهة أخرى يحرص المجمع على توطيد صلاته بالباحثين، ومحبي اللغة العربية وحقولها المعرفية؛ فيعلن عن جوائزه السنوية في فروع البلاغة والأدب وتحقيق التراث، فيستقبل الأعمال المتنافسة، وينتقي منها أكثرها أصالة، وأجودها بعد تحكيمها علميا.
وتعد مجلة المجمع العلمية من أعرق المجلات التي أخذت تتوالى أعدادها منذ صدور العدد الأول بتاريخ رجب 1353ه الموافق أكتوبر 1934م، وهو العدد الذي صدره رئيس المجمع حينها محمد رفعت باشا، موجها التحية إلى حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول، وإلى حضرة صاحب السمو أمير الصعيد الأمير فاروق.
إن مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد جعل للغة العربية أياما من العمل والإنجازات، ومع مرور الزمن تحولت هذه الأيام إلى أعوام ممتدة من الدأب والنشاط العلمي والمعرفي في خدمة اللغة العربية، بدأت هذه الأيام والأعوام منذ عام ١٩٣٢م وإلى يومنا هذا، واحتفى بها قبل أن تحتفي بها أية منظمة رسمية أو أهلية، محلية أو إقليمية أو دولية، وهو ما يكشف بجلاء عن الدور الفاعل والمؤثر الذي نهض به بوصفه مؤسسة وطنية حملت على عاتقها مهام قومية وتاريخية، ظل المجمع يعمل على الوفاء بها، وإنجاز أهدافها، متخذا لها من الوسائل كل ما أتيح، وما يتاح من أدوات لتحقيق غاياته في حماية اللغة العربية، وحفظ تراثها، وهو من هذه الناحية يؤكد أهميته بوصفه إحدى القوى الثقافية والعلمية التي حافظت على ريادة وطننا، ودولتنا المصرية في العالمين العربي، والإسلامي.