1872 - 1963
(سابق 1940) أعضاء - رؤساء
الأستاذ أحمد لطفي السيد – أستاذ الجيل - ولد بقرية "برقين" من أعمال مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، ولما بلغ الرابعة من عمره أرسل إلى كتاب القرية، ومكث به ست سنوات تعلم في أثنائها القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالسنة الثانية بمدرسة المنصورة الابتدائية وكان ناظرها في ذلك الوقت أمين سامي باشا، ثم نال الشهادة الابتدائية بعد ثلاث سنوات سنة 1885م، فالتحق بالمدرسة الخديوية بالقاهرة ونال منها شهادة الدراسة الثانوية سنة 1889م، والتحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق. وبعد أن أتم دراسته القانونية سنة 1894م عين كاتبًا في النيابة بالقاهرة ثم سكرتيرًا للنائب العمومي.
ثم منتدبًا للنيابة ببني سويف حيث التقى بصديقه عبد العزيز فهمي وكيل النيابة، وهناك وفي تلك المدينة شرع الرجلان يفكران طويلًا في حالة مصر، وانتهى بهما التفكير إلى إنشاء "جمعية سرية" غرضها تحرير البلاد من الاحتلال البريطاني. وفي ذات يوم كان لطفي السيد بالقاهرة فلقيه الزعيم الوطني مصطفى كامل وقال له: إن الخديوي عباس يعلم كل شيء عن الجمعية السرية وأغراضها، وأظن أنه لا تنافي بينها وبين أن تشترك معنا في تأليف حزب وطني تحت رياسة الخديوي، فوافق لطفي السيد على ذلك، واستأذن له مصطفى كامل في مقابلة الخديوي، وتحدثا معًا في أغراض الحزب الذي يراد تأليفه، وطلب منه الخديوي السفر إلى سويسرا لكي يكتسب الجنسية السويسرية، لأنها لا تكلف الراغب فيها إلا الإقامة سنة واحدة، ثم يعود إلى مصر ليحرر جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني فلا يستطيع الاحتلال أن يحول دون ذلك، واجتمع لطفي السيد ومصطفى كامل وغيرهما بمنزل محمد فريد بك، وتم تأليف الحزب الوطني كجمعية سرية رئيسها الخديوي، ثم سافر لطفي السيد إلى سويسرا، وبعد أن عاد إلى مصر وجد أن الخديوي غاضب عليه لأن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كان قد زار جنيف قي أثناء مقامه بها واتصل به. ومع هذا قدم لطفي السيد إلى الخديوي تقريرًا دوَّن فيه أبحاثه السياسية، وتتلخَّص في أن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها، وأن المصلحة الوطنية تقضي بأن يرأس الخديوي حركة شاملة للتعليم العام.
ورجع لطفي بعد ذلك إلى نيابة الفيوم، فنيابة ميت غمر، فنيابة المنيا، وفي سنة 1905م استقال من النيابة لخلاف في الرأي القانوني بينه وبين النائب العمومي (كربيت بك)، فاشتغل بالمحاماة مع صديقه عبد العزيز فهمي بك: ثم عمل بالتحرير في "الجريدة" سنة 1907م. وبعد ظهور "الجريدة" ببضعة أشهر تألف "حزب الأمة" وكان أسبق الأحزاب المصرية كلها إلى الظهور، واختير لطفي السيد سكرتيرًا عامًّا له. وفي سنة 1915م عاد لطفي السيد إلى الوظائف الحكومية فعُين رئيسًا لنيابة بني سويف، ثم مديرًا لدار الكتب، ثم استقال من دار الكتب في نوفمبر سنة 1918م ليشترك في تأليف "الوفد المصري" الذي تولى قيادة البلاد في ثورة سنة 1919م، ثم عاد ثانية إلى دار الكتب بعد الخلاف الذي وقع بين سعد زغلول رئيس الوفد، وعدلي يكن، وأخذ يشتغل بها وبالجامعة المصرية القديمة التي كان وكيلًا لها وإلى أن صدر مرسوم بتعيينه مديرًا للجامعة المصرية بعد أن أصبحت جامعة حكومية، وفي سنة 1928م اختير وزيرًا للمعارف العمومية حتى سنة 1929م، وعمل بعد ذلك مديرًا للجامعة عدة مرات كان آخرها سنة 1941م. كما اختير وزيرًا للدولة سنة 1937م، ثم الداخلية والخارجية.
لطفي السيد ومجمع اللغة العربية: آمن لطفي السيد بحاجة مصر إلى مجمع لغوي، وكان أحد العاملين على إنشاء المجمع اللغوي المصري الذي أنشئ سنة 1916م، وخصص لأعضائه قاعة في دار الكتب – التي كان هو مديرًا لها في ذلك الوقت – يجتمعون فيها، وقد اختير كاتب سره، ولإيمانه بفكرة المجمع حرص المجمع العلمي العربي بعد إنشائه على أن يكون أحد أعضائه المراسلين، كما حرص على ذلك أيضًا مجمع اللغة العربية فاختاره عضوًا عاملًا به سنة 1940م. وتولى رياسته خلفًا للرئيس الأول الدكتور محمد توفيق رفعت باشا سنة 1945م، وظل رئيسًا للمجمع حتى توفي، كما أن المجمع العلمي العراقي بعد إنشائه اختاره عضوًا مراسلًا له. وفي مجمع اللغة العربية استأنف لطفي السيد جهوده المجمعية، فاشترك في كثير من لجان المجمع: لجنة الأدب، ولجنة اللهجات والنصوص القديمة، ولجنة ألفاظ الحضارة، ولجنة العلوم الفلسفية والاجتماعية، ولجنة الأصول، كما اشترك في النواحي الإدارية بوصفه رئيسًا للمجمع. وكانت له اقتراحات قيمة مثل اقتراحه الخاص بجمع المصطلحات الفنية التي يستخدمها العمال في مصانعهم، والتجار في متاجرهم وأسواقهم، والزراع في مزارعهم، حتى إذا اجتمعت للمجمع طائفة صالحة من هذه المصطلحات، نظر في وضعها في معجم بعد صياغتها وفق الأوزان العربية القديمة. (د 9 جلسة 10 للمجلس).
1– كلمة في افتتاح الدورة الثانية عشرة. (مجلة المجمع ج 6). 2– كلمة في افتتاح الدورة الثالثة عشرة. (مجلة المجمع ج 7). 3– كلمة في افتتاح الدورة الرابعة عشرة. (مجلة المجمع ج 7). 4– كلمة في افتتاح الدورة الخامسة عشرة. (مجلة المجمع ج 7).
كانت صحيفة "الجريدة" التي صدرت في عام 1907م، وأغلقت في نوفمبر 1915م، المدرسة الكبرى للمبادئ السياسية والأدبية والاجتماعية التي نَشر بها لطفي السيد، ودعا إليها بين أبناء العربية. ومن مقالاته التي كان ينشرها تعلم الشعب معاني الديمقراطية والحرية والتقدم. لقد كتب في الحرية مثلًا أكثر من خمسة عشر مقالًا بعدة عناوين منها: "معنى الحرية"، و"الحرية الشخصية"، و"الحرية والأحزاب"، و"الحرية وحقوق الأمة"، و"الحرية ومذاهب الحكم"، و"حرية التعليم"، و"حرية القضاء"، و"حرية الصحافة"، و"حرية الاجتماع"...إلخ. وجُمعت بعض مقالاته في "الجريدة"، ونشرت في: المنتخبات ج 1، 1935م. المنتخبات ج 2، 1937م. تأملات، 1946م. وجمع طاهر الطناحي مقالات أخرى تصور فكره السياسي والأدبي والاجتماعي في: مبادئ في السياسة والأدب الاجتماعي، كتاب الهلال 1963م. كما نشر له كتاب الهلال 1962م كتابه قصة حياتي. صدرت هذه الأعمال في مجلدين كبيرين (2008م)، نهضت بهما دار الكتب والوثائق القومية بمناسبة مرور مئة عام على إنشاء الجامعة المصرية. وبعد إغلاق "الجريدة" تفرغ لطفي السيد للترجمة؛ فترجم كتاب السياسة، لأرسطو، ترجمة فريدة، وترجم معه المقدمة الضافية في علم السياسة التي صدَّر بها الترجمة (بارتلمي سانت هيلير)، ونشرته دار الكتب المصرية 1947م. كما ترجم عن الفرنسية للمترجم نفسه كتاب علم الأخلاق لأرسطو، وكتاب الكون والفساد، وصدرا أيضًا عن دار الكتب المصرية 1924م،.
قال الدكتور طه حسين: "ثم تفتح الجامعة المصرية فيغريني بالالتحاق بها والاختلاف إلى ما سيلقى فيها من الدروس والمحاضرات (...) وإذا هو ثاني اثنين فتحا لي من أبواب المعرفة ما لم يكن يخطر لي على بال، أحدهما كان يحدثنا في الأزهر عن الأدب العربي القديم، والثاني كان يحدثني ويحدث كثيرًا غيري من طلاب المدارس العليا عن الحياة الأوربية الحديثة وما يملؤها من فنون المعرفة". "وإذا أنا أنصرف عن دروس الأزهر إلى حديث هذين الأستاذين الكريمين، ثم أراني أكتب المقالات قصارًا أحيانًا وطوالًا أحيانًا أخرى، وأعرضها عليه فيصلح ما يحتاج منها إلى الإصلاح، ويأمر بنشرها، ويشجعني على المضي في الكتابة". "ومهما أقل، ومهما أكتب، فلن أستطيع أن أصور – كما ينبغي – تأثير هذا الأستاذ الجليل فيمن كان يختلف إليه مثلي من الشباب. فَقَدْ أحيانَا حياة جديدة، وفتح أمامنا من الآفاق ما لم يستطع أحد غيره أن يفتح أمام الشباب". "كان يحدثنا في غير تكلف عن السياسة المصرية وعن السياسة العالمية، ولأول مرة سمعنا منه ألفاظ الديمقراطية والأرستقراطية وحكم الفرد وحكم الجماعة وحق الأمة في أن تحكم نفسها بنفسها ولنفسها. وآراء أرسطاطليس وأفلاطون، أو سيدنا أرسطاطليس وسيدنا أفلاطون، كما كان يقول في أنواع الحكومات على اختلافها، وعن آراء مونتسكيو في كتابه روح القوانين، وآراء روسُّو في كتابه العقد الاجتماعي. "ذلك كله إلى ما كنا نقرأ في مقالاته من أن الأمة هي الكل في الكل، ومن أن مقام الأمة فوق كل مقام، ومن أن الحكام ليسوا في حقيقة الأمر إلا خدامًا للشعب يخدمونه ويأخذون أجرهم منه، فإذا استقاموا ونصحوا للشعب فهم خدام أمناء، وإذا جاروا وغشوا الشعب فهم خدام خونة لا فرق في ذلك بين أمير ووزير وموظف مهما يكن مركزه. ومنه سمعت لأول مرة قول أبي العلاء: ظَلَموا الرعية واستجازُوا كَيْدَها وعدوا مَصالِحها وهُم أجراؤها "ماذا أقول؟ بل منه سمعت لأول مرة أن أبا العلاء قد أخذ فلسفته العملية والنظرية عن الفيلسوف اليوناني أبيقور الذي زهد في الحياة ولذاتها اجتنابًا للألم، والذي أعلن أن الكائنات لم تخلق للإنسان بل خلقت كالإنسان، ومنه سمعت قصيدة أبي العلاء المشهورة التي أولها: أراكَ مريضَ العقلِ والدينِ فَأْتني أُنَبِّئْكَ أنباءَ الأمورِ الصَّحَائحِ "وهو الذي حبب إليَّ أبا العلاء حتى أخذت في درسه واستقصاء أدبه وفلسفته، وتقدمت برسالة عنه إلى الجامعة أبتغي بها درجة الدكتوراه". وقد قرأ هذه الرسالة بعد أن قبلتها الجامعة. ولست أنسى يومًا لقيته فيه بعد أن فرغ من قراءة هذه الرسالة، فإذا هو يأخذني بين ذراعيه ويقبلني قائلًا: ستكون – إن اجتهدت – أبا العلائنا. "ولست أغلو أيها الزملاء والسادة إذا قلت إن هذا الأستاذ الجليل قد أنشأ في مصر جيلًا جديدًا. ولست أنا وحدي الذي يقول هذا، بل كثيرون من تلاميذه قالوه، وما زالوا يقولونه. فهو أستاذ الجيل غير منازع، وهو الذي علم الشباب المصريين حق الأمة في أن تحكم نفسها بنفسها، وعلمهم أن مصر يجب أن تكون لأبنائها، وأن تخلص لهم دون الترك العثمانيين أصحاب السيادة حينئذٍ ومن دون الإنجليز المحتلين". "وقد سافرت بعد ذلك إلى أوربا فلم ينسني ولم أنسه، وإنما اتصلت الرسائل بينه وبيني، ولم أقدم رسالتي عن "ابن خلدون" إلى السوربون لأنال بها الدكتوراه إلا بعد أن قرأها وأجازها، وكلف الجامعة أن تكتب إليَّ بذلك، وأن تأذن لي في تقديم الرسالة كما كانت القاعدة تقضي بذلك في تلك الأيام". "ثم عدت من أوربا أستاذًا في الجامعة، فكانت رعايته لي أستاذًا كرعايته لي تلميذًا، لم ينقطع عطفه عليَّ وبره بي في يوم من الأيام، ثم عملت معه أستاذًا في الجامعة الحكومية فلم تتغير سيرته معي، وإنما ظل دائمًا أبًا برًّا وصديقًا وفيًّا. وقد استقال من الجامعة حين أُخرجت منها في بعض الأزمات السياسية ولم يعد إليها إلا بعد أن عدت أنا إليها". (مجلة المجمع ج 18).
"دخل لطفي السيد التاريخ من عدة أبواب، وقيد في سجل الخلود حيًّا وميتًا، وقف نفسه على الإصلاح والتجديد ستين عامًا أو يزيد، وهي مدة لم تتوافر لمصلحين كثيرين، قضاها يفكر ويدبر، ويبحث ويدرس، ويدعو ويعلم، ويطبق وينفذ. كان يرى أن طبيعة الأشياء تأبى الطفرة، وأن التطور سنة أكيدة من سنن الحياة، لا يخرج عليها فرد ولا مجتمع. وكان همه أن يلائم بين الماضي والحاضر، وأن يعدهما للمستقبل، ويؤهلهما لسير الحياة الزاخر، وقل أن نرى شيخًا اقترب من الشباب قربه، واتسع صدره للجديد مثله. ولم يكن تطوريًّا فحسب، بل كان تقدميًّا أيضًا، يعتقد أن الإنسانية سائرة إلى الأمام دائمًا، وأن جيل اليوم خير من جيل الأمس، وأن ثلاثة أجيال كفيلة بأن تصعد بالأمة المصرية إلى مصاف الأمم الراقية". "على هذه الأسس قامت دعوته الإصلاحية، وهي أسس كلها تفاؤل وأمل ورجاء، فدعا في ثقة وطمأنينة، ووجه في لين وهوادة، وخاطب العقل قبل أن يخاطب العاطفة. لم يبد عليه قط أنه يستعجل الخطا، أو يكلف الأشياء ضد طباعها، أو يثيرها شعواء، ولم تسلم دعوته من النقد والمعارضة، ولكن مسلكه الهادئ خفف من غلواء ناقديه، ووضعه موضع الإجلال لدى مؤيديه ومعارضيه على السواء. والاعتدال عنده من أسمى الفضائل، اعتدال في الرأي والقول والعمل، وقديمًا قرر أرسطو أن "الفضيلة وسط بين طرفين". "امتد تجديده وإصلاحه إلى ميادين السياسة والاجتماع والفكر والثقافة. وكان طبيعيًّا أن تجتذبه السياسة أولًا، وهو تلميذ جمال الدين، وربيب الحركة الوطنية الثائرة في أخريات القرن الماضي. والسياسة عنده وثيقة الصلة بالاجتماع، لأن حظ الأمة من النضج السياسي رهن بمستواها الاجتماعي. وكم دعا إلى تطوير المجتمع المصري ورفع شأن الفرد والأمة. ولا سبيل إلى نهوض حقيقي إلا بالعلم، والعلم الغزير، وواجبنا أن نمكن له بإنشاء جامعة تسهم بنصيب في رقي المعارف الإنسانية. واللغة أداة العلم ووسيلة التفاهم، وما أحوجنا أن نطوعها لمقتضيات العصر وظروف الحضارة، وفي قيام مجمع لغوي ما يعين على ذلك، وحسبي أن أقول كلمة عن لطفي السيد اللغوي والمجمعي." (مجلة ج 18).